كيف ترد على نظرية “انقراض الإذاعات”؟ مقال لـ: سالم عوض بن سهل

277

هل ما زالت الإذاعة محتفظة بمستمعيها؟ وهل تؤدي دورها المناط بها بالشكل المطلوب؟ أم أنها انحرفت إلى اهتمامات أخرى قد لا ترضي جماهيرها؟ سينقسم الشارع إلى نصفين في الإجابة على هذه التساؤلات، وبدون أدنى شك، فكلمة الحسم لإنصاف الراديو بحوزة أهل الاختصاص، الممارسين للعمل الإذاعي.

سبق وأن ذكرت في مقالي الأخير عن “الفضاء الإذاعي في المكلا .. بين الواقع والمأمول”، أن هناك تزايداً ملحوظاً في أعداد الإذاعات المجتمعية عاماً بعد عام، وهذا بطبيعة الحال يدل على وجود قاعدة جماهيرية لهذه الإذاعات، وإلا لما خسر ملاكها آلاف الدولارات من أجل شراء جهاز البث الخاص بها، وبهذا فإن الإذاعات لا زالت على قيد الحياة، ولن تنقرض في زمن الصحوة الإعلامية، الذي باتت فيه لكل وسيلة إعلامية جماهيرها، بما فيها الإذاعة أعرق هذه الوسائل.

أعرف تماماً عزيزي القارئ أنك متلهف لقراءة أسطر أكثر واقعية، تقدم لك معلومة، من كاتبٍ يعيشُ التجربة، وحتى أكون واقعياً سأصف حالتي كمستمع لزملائي في مختلف الإذاعات، وحالتك كمستمع لي وأنا أقدم برامجي المعروفة، بإختصار نحن كجماهير خاملين، والإذاعة لا تشترط علينا أي مجهود، بعكس التلفزيون، الذي يشترط أن نتفرغ للجلوس تحته، لرؤية المشاهد، وفهم محتواه، وكذا مواقع التواصل الاجتماعي، التي تتطلب الاتصال بالانترنت، وتصفحها، ومشاهدة موادها، أما الإذاعة فهي شيء مختلف تماماً، فهي وسيلة ترفيه، يمكن أن نستعملها ونحن مشغولين بقيادة السيارة، أو بالطبخ، أو كي الملابس، أومسترخيين وواضعين مخدة فوق رأسنا، بأي وضعية، بأي شكل، في أي عمل، وبأي حالة نستطيع سماع الإذاعة، وهذه إحدى مميزاتها.

وأغلب مستمعي الإذاعات من فئة الشباب، وهذا ما أكدته نتيجة الاستبيان الإلكتروني، الذي أجريناه مطلع العام الحالي، لمستمعي إذاعة رؤية FM، والمستمع أياً كان، يفضل أن يستمع إلى مواد لا تتطلب تركيزاً للاستنباط والتحليل، بحيث تكون سهلة التلقي والتفاعل، وهذا ما يوجد فعلاً في برامج الإذاعات، فهناك حميمية وهمية واضحة في الجمهور المستمع، لمذيعهم المفضل في الإذاعة، الذي لا يعرفونه إلا عن طريق الوهم والخيال، ومن المعلوم أن العلاقات الوهمية تتميز بمصداقيتها المفرطة، فكثير من عاشقي الإذاعات، لا يصدقون الأخبار في التلفزيون، ولا أخبار مواقع التواصل الاجتماعي، إلا إذا قرأها مذيع النشرة في الإذاعة، وبالتالي فالعلاقة بين المستمع والمقدم متينة للغاية، وكل كلمة يقولها المقدم يشعر المستمع بأنها موجهه له، وكأن المقدم يراه ويخاطبه فعلاً، وهناك العديد من القصص، التي تروى في هذا الجانب، لمستمعين عاشقين لأقدم وسائل الاتصال.

فالإذاعةُ تشكِّلُ مجالاً خصباً للتخيل، بسبب الشحنة العاطفية الموجودة في الصوت، وهذا يعتمد على كرزما المذيع، ولباقته في الأداء، وحسن تحضيره، وسلامة لغته التي يخاطب بها الجمهور، مما يزرع قيمة الانتماء المكاني بين المرسل والمستقبل، فيشعر المستمع بالحنين لصوت إذاعته المفضله، في حال مغادرته لمدينة أو قرية أخرى لا يصل إليها الإرسال الإذاعي، ويبقى حس الانتماء من أقوى العوامل التي يتكئ عليها العمل الإذاعي، لتكوين منصة من المستمعين الأوفياء.

وفي مجتمعنا المحلي، ماذا تقدم الإذاعات في المكلا لجماهيرها؟ وهل الحميمية لصوت الإذاعات بين أوساط المستمعين ظاهرة متفشية بكثرة؟ بعيداً عن الإذاعات الرسمية، توجد العديد من الإذاعات المجتمعية بمختلف سياساتها: الصحية، والتنموية، والشبابية، والمنوعة، وغيرها، ومع وجود التنافس في تقديم محتوى إذاعي موجه، إلا أن صحافة الإذاعة غائبة تماماً، وبين فضولنا في معرفة هل تظلمنا الإذاعات بهذا الإنتاج الذي لا يشبع حاجاتنا؟ أم نحن نظلمها بتلك المطالبات؟ تعاتبنا جدران تلك الإذاعات، لأننا بهذا نأذن لها بالإفلاس، وإغلاق موجتها، فجميع الإذاعات -وحتى الممولة من مؤسسات- غير قادرة على إنتاج محتوى صحفي، وهذا منطقياً إنتاج مكلف مادياً لها، إذ يتطلب زيادة طاقمها، ليشمل الكثير من المحررين، والصحفيين، والمدققين، لمتابعة القضايا، والحصول على قصص جديدة، فالإذاعات مشاريع دول، وهذه فرصة غير مواتية للإذاعات المجتمعية، التي قد نظلمها برفع سقف مطالبنا بتجويد محتواها الصحفي، وجلدها بألذع عبارات الانتقاد.

فما تقدمه الإذاعات المجتمعية من مواد ترفيهية، ومسابقاتية، وإخبارية، وتوعوية، هو ما نطالبها بتحسينه، لأنها أقدر على ذلك، إن فكرت وخططت، فمن المؤسف أن تغيب المواد الرصينة والمحكمة عن تلك الإذاعات، وتزيد في خارطتها الفواصل الغنائية والموسيقية، فالمجتمع يعي، ويعبر عن رأيه، ويفضل هذا عن ذاك، وأذكر ذلك كحق يجب أن يعطى للمستمع، ولن أغفل عن ذكر واجب المستمع، تجاه الجهود المبذولة من قبل ملاك الإذاعات المجتمعية، فالاتصال، والتفاعل، والمشاركة، لا يكون إلا في البرامج التي فيها سحب على جوائز، ويندر في بقية البرامج التي تهتم بالقضايا المجتمعية، فإن كنت متلقياً واعياً بأهمية وصول صوتك، ومقدراً لمن ترك لك مساحة للتعبير عن رأيك، لا تكن مستمعاً متطفلاً، وتَفَضَّل بالحديثِ بشكل لبق، يُعْلِمُنَا باستحقاقك لهذا المجهود، الذي لا ننتظر منك عليه جزاءً ولا شكوراً.

LEAVE A REPLY