المكلا (المندب نيوز) تأليف: م.هبه الحدَّاد

 

أنا وصديقتي “شَوَّاقَة” ،لم نفترق منذ أول مرة ألتقينا فيها ،ففي الصف الأول الإعدادي جاءت برفقة أسرتها من مدينة مجاورة ..وسرعان ما توطدت صداقتنا ،وارتفعت معها معدلاتنا الدراسية ..حتى وصلنا إلى المرحلة النهائية من الثانوية..

كانت آخر سنة دراسية ،محطة من الكوابيس المتتالية .. وحين وصفتُها بالمتتالية فأنا أعني الكلمة تماماً..إذ كنتُ وصديقتي نتناوب في الأحلام المزعجة يوماً بيوم ..وعلى الرغم من أنها أقضت مضاجعنا وأقلقتنا ،إلا أننا لم نكن لنفوِّت فرصة الضحك والسخرية من مغامراتنا المجنونة ،حين تداهمنا الإمتحانات ، وحين نصاب بضجر من المذاكرة اليومية …

مساء الخميس من كل أسبوع ..هو أجمل ما مر علينا من أوقات.. هو موعد إجتماعنا ومرحنا وقراراتنا الحاسمة أيضاً.. وعلى الرغم من أننا نقضي أيام الأسبوع معاً ..إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية هذه الأمسية وقداستها ..

…………………..

شَوَّاقَة :

جاء الخميس هذه المرة مختلفاً.. كنتُ وصديقتي نتضاحك ونتجادل… حتى ألقتْ بها كعبوة ناسفة في وجهي!!

– هل تقبلين بأخي “هيثم” زوجاً ؟

فغرتُ فاهي مثل أطفال الكارتون .. ولولا تخوفي من هجومٍ ذبابيّ مباغت ،لظلّ مفتوحاً مدةً من الزمان .. استلقيتُ بعدها للخلف أضحك كبنت السنتين والثلاثة ….

أنهيتُ ضحكاتي وتمرغي في المقعد وهي كما هي!! لازالت على ابتسامتها؟!

هززتُها بطرف أصبعي ،بغية أن تتحرك!  اتسعت ابتسامتها وهي تقول :

– ها ما رأيك ؟ “هيثم” أخي وتعرفينه جيداً.. لقد طلب مني أن أفاتحك قبل أن يطلبك من والدك !..

– صفية..  صفيصفاء….حبيبتي هل أصاب عقلكِ شيء؟؟؟

ضَحِكتْ صديقتي صفية وضَحِكتْ ..حتى ارتحتُ أنا ،وابتسمتُ ابتسامة رضا..قلتُ وأنا أعقد ذراعاي :

-الحمد لله عاد إليكِ رشدك.. لا تخافي كل هذا من تأثير معادلات التفاضل والتكامل …

– هذه المعادلات أثرت على عقلك أنتِ..

 قالتها وهي تهز رأسي عابسة..

ما بالك لاتفرقين بين الجدِّ والهزل ؟على كل حال سأخبره بأنكِ موافقة مبدأياً.. جيد؟؟

لحقتها وهي تتناول الهاتف وتبدأ بإجراء المكالمة.. 

– مجنونة..  مجنونة.   مجنونة..  ماذا تفعلين؟

– ليس من شأنك..

أول خميس من الشهر التالي سيكون مختلفاً.. إذ أنَّ الخطبة ستُعلن فيه رسمياً..ورسمياً أيضاً سيكون منزلهم محرماً عليّ .. بالنسبة لي فلا أمانع من الذهاب .. لكن تم منعي بأوامر عليا .. وبقيت مهمة تبادل الزيارة على صديقتي المخلصة “صفية”……

……………………….

صفيّة :

في الغد ستُقام حفلة الخطبة لصديقتي وتوأمتي .. تسامرنا سوياً حتى وقت متأخر من الليل.. نتحدث في أدق التفاصيل ،وإن إنتهينا أعدنا ماسبق مناقشته..كانت سماعة الهاتف تشهدُ تلك السعادة المتدفقة من قلبينا…

أما أخي “هيثم” ،كنتُ أدرك ما يجتاحه ،فقد قضى ليلته رائحاً وغادياً يشاكسني .. آملاً بإلتقاط بضع كلمات تشفي شوقه “لشَوَّاقتَه”..

في مساء اليوم التالي ،وحين بدأت النساء بالتوافد للتهنئة ،وضجّت الصالة الكبيرة بالنسوة .. لفت نظري حركات غريبة ..من عروس حفلتنا..

كانت تضع يدها على رأسها ثم تبعدها مسرعة قبل أن يلحظها أحد ..

تجاوزتُ من حولها وهمستُ في أذنها .. 

– ما بك؟؟

– لا شيء..

نظرتُ إليها في ريبة وأنا ألحظ قدمها تدقّ الأرض ..

صديقتي ليست على مايرام؟كيف أُخرجها من هنا..كيف؟؟

أخبرتهم بأنّ “الجدة فاطمة” في الدور العلوي ،تود رؤيتها مرة أخرى  ..ضحكوا وأذنوا لنا بالصعود ..

ولم نكد نصل للأعلى .. حتى سقطت بين يديّ .. ومن ليلتها لم تعد لنا “شَوَّاقَة”!!..

حين ذهبت لزيارتها صباح اليوم التالي .. أخبرتني بأنها لا تريد أخي..  لماذا ؟؟ لماذا لم تخبرني من قبل ؟ لا أعرف السبب!ولا أدري ما الذي أصابها !!..

كانت ملحة بإنهاء الخطبة سريعاً…

 

في إحدى زياراتي التالية لها.. كتبتْ رسالة من كلمات قليلة -بيدها المرتعشة –  تخبر فيها أخي برفضها ..

لم أتمكن من فهمها!! لقد كانت سعيدة.. سعيدة جداً.. لم يجبرها أحد على هذه الخطبة..

والآن كيف تغير حالها عقب تلك الليلة؟!

وماذا إن كانت صديقتي تتحدث في غير وعي ؟! .. الأمر محيّر ..والحقيقة غائبة ..

حال عودتي للمنزل تناولتُ صندوقاً نحاسياً ،ذو حواف ذهبية..عزمتُ على إخفاء رسالة “شَوَّاقَة” المطوية بإحكام في داخله..

– ” أخبريه أنني لا أريده ،أرجوكِ يا صفية ..  لا أريده…  …. …….”

حين رأتْ “صفية” إقتراب “هيثم”  ..سارعت  بإخفاء الرسالة تحت الوسادة واتكأتْ عليها..

حدّثها وعقلُهُ منشغل بما خبئته أسفل الوسادة .. وعلى حين غفلة منها سحبها .. 

فَزِعَتْ !!ولم تدري أتندفع لسحب الورقة ؟ أم لتنسحب هي قبل أن تنالها قبضته؟!

قرأها .. صُدِم .. وتأرجحت الأحداث في ذاكرته..

قال كلمة واحدة ..ووجهه يحتقن بالدماء…

– لماذا؟

صمتت وأطرقت!..

قَفَلَ خارجاً وخرّت صفية تبكيهما..

……………………..

بعد إنطواء أربع سنوات.. لا تزال صفية تترقّب مساء كل خميس.. تفرد الماضي على صفحات الذاكرة .. فتضطرب معها خفقات فؤادها ..وكأن كل ما حدث لم يتجاوز أعتاب ليلة البارحة ..

تتذكر بكاءها ونحيبها بين يديّ “الجدة فاطمة” ..حين أخبرتها بأنّ صديقتها الحبيبة “شَوَّاقَة” ،قد أُصيبت ليلة الخطبة بـ “عين”.. رأتها ولم تبرِّك!

لا يزال السؤال يصدر طنينهُ الصاخب في أذنيّ الوفية “صفية” !..أكانت كلمات الجدة صحيحة؟! وهل تصنعُ العين كل هذا الأذى؟!! أم أنها قد بالغت في الإعتقاد ؟..

……………………..

أما عن “هيثم” فلم تزده  السنوات الماضية إلا وفاءً وإخلاصاً .. يجلس بالقرب منها.. يبكي ويعتذر سوء ظنه..

ولا يغادر تلك النائمة في قبرها.. حتى يمطرها بزخاتٍ من الماء والدعاء…

 

تمَّت بحمد الله..

LEAVE A REPLY