قريتي موطني وعالَمي البديع مقال لـ أحمد باحمادي

308

 

ساقته قدماه ليعاين أطلالاً تشبه قريته التي أحبها من أعماق قلبه الحزين، اغترب  بعيداً عن موطنه لأعوام ، قاسى مرارة البُعد لأجل لقمة العيش، وفي غربته تلك أقبل العيد، هاجت ذكرياته الحرّى، تذكر من سبقَ ممن رحلوا من أهل قريته إلى العالم الآخر، أحس كأنه يغبطهم على فكاكهم من هموم الحياة وتبعاتها.

 

وفي دوامة شوقه الطاغي إلى مسقط رأسه لم يستمتع بأريج العيد، ولج دوّامة من النكد والعناء، عافت نفسُه لحم العيد، رأى ( المحاشي ) كعبوات ناسفة، تنقّل في زياراته لأصحابه في الغربة جسداً لا روحاً، بدناً لا نفساً، تواصل مع أصحابه لكنّ كيانه حلّق في سماء التيه والضياع.

 

 لم يشأ أن يكون مكروباً، بالأخصّ في موسم الوَهَج، تساءل : ” تُرى كيف يفرح هؤلاء ؟ ومن يبيع لهم طيف الابتسامات ؟ ” رأى عالمهم على خلاف مع عالمه الحزين، عافت نفسه العيش بينهم غير أنه يخشى اللحظة التي ينبغي أن يقول لهم فيها : وداعاً.

 

تداعت ذكرياته سراعاً، تذكر كيف نشأ صبياً في طاعة الله، التزم حلقات القرآن في قريته الوديعة، حلّ في سماء العبودية، كان شمساً باهرة، شعلة مضيئة تحمل النور وتسطع في رحاب الكون الواسعة، كان مشعلاً قرآنياً يمسك بوحي السماء براحة وحبور، كان يَرِدُ حلقات القرآن كما يرد الظامئ منهلاً عذباً، ماءً زلالاً صافياً.

 

كبُر وكَبُر معه حبّ القرآن، صارت روحه الصقيلة تشرب من وحيه رحيقاً من النقاء، فكان وجهه ينير نوراً أبدياً يسافر في رحاب الخالدين، تذكر كيف تلقته حلقات القرآن مثلما تتلقى وليداً أبصر النور، هدتْه بعون الله طريقاً يفوح منه عبق الترتيل ومسك التلاوة، نشأ بعيداً عن الزيغ والضلال، ولولاها لتخبّط في دياجير الحياة المدلهمّة.

 

تذكر مئذنة مسجده العتيق، تلك المئذن التي كان التاريخ يحلّق في أعاليها، فيعبق المكان بعطر الأجداد، مئذنة تحلّق فوقها أطيار الفرح ، مئذنة يعانقها تاريخ مجيد لأجداد زرعوا فيه الشموخ والمحبة ، ثم غادروا هذا العالم، كانت تنادي في السائرين هلموا ًإلى راحة نفوسكم. اعتلاها رجال طالت أعناقهم وجاوزت السماء، ويوم أن أرادوا هدمها استعصت عليهم، كانت شامخةً شموخ نخل الآباء، أبَت السقوط، أحاطوها بأسياخ الحديد، جذبوها بكل قوة حتى تهاوت إلى الأرض ، وفي الأخير هدموها لأنها رمح انغرز في خاصرة باطلهم .. هذه قصة مئذنته في قريتي التي رحل عنها.

 

وبتذكره مئذنة مسجده، تذكر جامع قريته المهيب، ذلك المسجد الرحيب الذي كانوا يجتمعون فيه حينما يتزوجون، ويلتفّون فيه معاً إن مات أحدُهم، فيه يتشاورون وعلى جنباته يلتقون، إن افتقدوا أحدهم سألوا عنه جاره أو ذويه، كانت ترفرف فيه أعلام المودة والألفة، مساجد غيرهم خاوية، بهرجوها زينوها بلا طائل، أما أهل قريته فتلك كانت مساجدهم، معمورة بالعبّاد المؤمنين.

 

تذكر كيف صار حال قريته اليوم عن الأمس، أهلها الضعفاء تلبستهم روح الجبن وغزتهم جيوش الهوان، ساروا على الدرب فما وصلوا، سهروا الليالي وما بلغوا المعالي، رأى أرضهم بالخير عامرة، تتفجر الثروات من جنباتها، وبالرغم من مستور حالهم وجدهم لا يحتفون بالحياة، آمالهم، أموالهم، أرضهم، أوقافهم، خيرهم، جميعها تُسرق من قِبل لصوص السياسة، بينما هم يعيشون في الظلام، ولماذا إن ساروا على الدرب ما وصلوا ؟ ” تساءل بحيرة، ” أجابه شيطان الواقع : لأن الخلاف نشب بينهم أظفاره.

 

ذكريات حلوة والبعض منها قاسٍ أليم، ذكريات حملت كثيراً من العواطف الجياشة، مفعمة بالحب لقريته مما صار إليه حالها، أذكتها حرارة الغربة والحنين، حملت إليه مشاهد رائعة ذكرته بالطفولة والصبا ، ذكريات مدرسته التي كان يقوم إليها فرِحاً بعيون مغمضة، وفيهٍ يملؤه التثاؤب والنعاس، وأجساد صغيرة أضناها الفتور ، ليمضي ورفقاؤه في رحلة الحياة شباباً فكهولاً والرحلة لا زالت مستمرة.

 

ويوم أن صار الشيب والضعف يعيثان في جسده فساداً، تذكر زمن الأوائل هاتيك، رأى العادات الجميلة قد اندثرت، الأخلاق تغيّرت، وتنكر الناس لأخلاق أجدادهم، نوبة من التفكير العميق تغمره كل حين، تزيد في نفسه الشوق والحنين، فَكّرَ ” رغم وقتهم الصعب وأحوالهم الضاربة في الأمية والجهل، إلا أن قلوبهم كانت بيضاء ناصعة، خلوا من الحقد، فضّوا مغاليق قلوبهم وأخرجو ما بداخلها من سواد قاتم”.

 

 مضى في أفكاره دهراً، وبعد أن نال قسطاً من ذكريات الماضي الجميل عاد إلى واقعه المؤلم، رأى غبار التفرق والتشرذم والكره يزوبع في فضاءات الكون، كان ثمة همٌّ بثقل الجبال يرزح في صدره المكلوم، أخذ يمشي متثاقلاً خائر القوى شاحب الوجه عائداً إلى ملاذه البسيط، لم تشغله بعدئذٍ حقارات الواقع، وانشغل بوضع اللبنات الأولى لعالمه المقبل.

 

LEAVE A REPLY