أسس التطرف الديني في الأديان الإبراهيمية مقال لـ مساعد الحريري

338

 

عرض كتاب “الأسس الدينية للأصولية في الأديان الإبراهيمية”، للأستاذَين د. فكري جواد عبد وعبد الأمير كاظم زاهد؛ مروحةً من صنوف الاتّجاهات “الأصولية” (بمعناها العُـنفيّ الإلغائيّ) للحركات الآيديولوجية المعطوفة عـلى “الديانات الإبراهيمية” (اليهودية المسيحية والإسلام)، وحيثيّاتِ تبلورِها ومسار فكرها ونشاطها العَمَلِيّ. ويشدّد مؤلِّفا الكتاب على أنّ “الأصوليّة” المتعصّبة، بوصفها آيديولوجيا فاعـلة، اتَّخذت، طوالَ التاريخ، ما تفْهمه من النصّ الديني، المبرِّرَ لها في تمكين برنامجِها لإحلال “الخلاص” الذي تـنشده للبشرية… أو للبيئة التي تنتمي هي إليها.

 

كتاب “الأسس الدينية للأصولية في الأديان الإبراهيمية”

 

يمثّل الأورثوذكس، أو “الحريديون”، الأصوليّةَ اليهودية. وجاءت تسميتهم من مفردة باللغة العِبرية تعني التقوى وخشية الرب. هم يعتنقون فلسفة دينية تقوم على فكرة انتظار المسيح الذي سيقيم مملكتهم من جديد. ويتّصفون غالبًا بالتعالي على غيرهم، حتى من اليهود. وكذلك يزدرُون معتـنقي الديانات الأخرى، فهم في نظر الحريديين، من الأنجاس المحظورة مخالطتهم.

 

تشكل هذه الحركة امتدادًا للحركات المتشددة التي ظهرت أثناء حكم المكابيّين في فلسطين؛ وتعتنق المعتقـدات اللاهوتية التوراتية نفسَها. إن الحريديّين يعدّون أنفسهم حفظة شرائع التوراة والتلمود وحرّاسها، من تأثيرات الأغيار، ويميل أتباع هذه الطائفة إلى العنف والعدوانية في ممارساتهم السياسية والدينية، لا سـيّما أنّهم أصحاب ثقل سياسي وديني.

 

ويعزو بعض المفكّرين ميلَ هذه الجماعة إلى السلوك المتطرّف، إلى كونها قد نشأت في دول الشتات، في أوروبا الشرقية، في ظروف قاسية انعكست سلبًا على المجتمعات اليهودية فيها. ورغم تمتّع هذه الجماعة بمكانة طيّبة داخل المجتمع اليهودي، فإنها كانت محلَّ رفض مِن قِبل بعض التيارات اليهودية التي تنادي بالإصلاح؛ ودارت بين الطرفَين مجابهات عنيفة، بفعل التناقض الفكريّ بين الطرفَين، ولاعتقاد الحريديّين بأن التيارات الإصلاحية سوف تؤدي إلى انهيار اليهودية واضمحلالها. بينما يعتقد الطرف الآخر بأن هذه الجماعة الأصولية هي بمثابة “دخيل” على المجتمع اليهودي، وفكرة نامية للانقسام، ستؤدي إلى تفكّك ذلك المجتمع في وقت قريب، أو لانزوائه في ظلمات بعيدًا عن التطور والتقدّم.

 

يسعى الحريديّون إلى إجراء تحليل لاهوتيّ لنصوص التوراة، وتفسيراتِ التلمود في ممارستهم لفلسفتهم السياسية؛ ويؤمنون بأن التمتّع بالحقوق المدنية هو كفرٌ وخروج عن الشريعة التي حدّدت حقوق والتزامات اليهودي.

 

وقد تفرّع عن هذه الطائفة الأصولية المتطرّفة، طائفة أخرى، هي الأصولية المعاصرة. والأصولية المعاصرة لا تختلف عن الأصولية الأورثوذكسية في جوهر الديانة وطريقة الحياة والالتزام بقواعـد الطهارة والشرائع الدينية؛ إلّا أنّ ما يميّز أتباع الأصولية اليهودية المعاصرة أنهم يختطّون لأنفسهم طريقًا وسطًا في التعامل مع الممارسات الدينية والمعاملات اليومية، ويسعون لعدم التوسّع في مزج المعتـقدات الدينية بالنصوص والشخصيات المقدّسة.

 

أما الاختلاف الجوهريّ، بين الأصل والفرع، في الأصولية اليهودية؛ فيكمن في أن الأصوليّين الأورثوذكس يعتبرون الحاخام لا رجلَ دين فحسب، بل هو حاكم شرعي كذلك، لهذا يجب أن تكون له محكمة وله سلطة الحُكم في الأمور الدينية والدنيوية، انطلاقًا من المبدأ الأصولي القائل بأن الزعامة الحقيقية هي دينية تسعى لتنفيذ مشيئة الرّبّ.

 

وقد اختلف الأصوليون المحدِثون عن الأورثوذكس، في رفض المحدِثين الاعترافَ بأن التوراة متمثّـلة بأسفار موسى الخمسة (التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثـنية)، التي تُعتـبَر كلمةَ الربّ من دون وسيط. بل هم يؤمنون بأن التوراة هي تعاليم وقوانين وشرائعُ وضعها الحاخامات اليهود، وأنّ التوراة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالشريعة الشفويّة (أي التلمود)، فهي إبداع إنساني، لا نتاجٌ إلهيٌّ صَرْفٌ؛ الأمر الذي يرفضه بشدة أتباع الأصولية الأورثوذكسية.

 

اليهودية الأصوليّة و”مخاطر” العلمانيّة والحاخامات الإصلاحيين

 

تأسّس الحزب الديني القوميّ في العام 1956 على يد زعيمه موشيه شابيرا الذي يعترف بالحركة الصهيونية بوصفها قائدًا للفكر السياسيّ لليهود، ويؤمن إيمانًا مطلقًا بالحق التاريخي لليهود في أرض فلسطين، بناء على وعـد إلهي ذُكِر غيرَ مرة في التوراة، وأن استيطان هذه الأرض يجب أن يكون محصورًا باليهود فحسب دون غيرهم؛ لأنها أرض مقدَّسة لشعب مقدَّس… وأن هذه الأرض يجب أن تخلو ممن هو غير يهودي. لذلك فهو يدعو إلى ترحيل “عَـرَب 1948” منها، ويرى أنّ بناء الدولة يجب أن يستند إلى ركائز دينية، من خلال تبنّي مبادئ الشريعة اليهودية بكل مصادرها، وأن يُعَادَ النظرُ في المنظومة التشريعية في إسرائيل، التي يجب أن تستـند إلى الشريعة الدينية دون غيرها.

 

وقد نشأ هذا الحزب الأصوليّ المتطرّف وترعـرع في أحضان الحركة الصهيونية “العلمانية”. إن التربية اليهودية، بحسْب توجّه الحركة الصهيونية، يجب أن ترتكز على تعزيز الروح القومية لليهود، دون الخوض في المبادئ الدينية التي تغـذّي الشؤون الروحية. وقد أدرك اليهود المتـديّنون أنّ الحركة الصهيونية من الممكن أن تهمّش دورَهم وتُعلي من شأن منافسيهم من العلمانيين واليساريين داخلَها؛ لذا كان من أولويّاتهم إنشاءُ أحزاب دينيّة متشدّدة، تتخذ من التراث الكتابيّ لليهود (متمثّلًا بالعهد القديم والتلمود) أساسًا لمنهجها، وأن تستوعب أكبر عدد من الجمهور، حتى تعيدَ التوازن داخل الحركة الصهوينية، أو ترجّح كفّة الأحزاب والتيارات الدينية فيها. فنرى أنّ “حركة الشرقيّ” قد أعلنت في مؤتمرها التأسيسي، في عام 1902، في لتوانيا أنه: “لا يمكن لتوراة إسرائيل – وهي ’روح الأمة‘ – أن تسيطر في بلدان المهجر، ولا يمكن فيها أداءُ كل فرائض التوراة الطاهرة… لذا ينبغي توجيهُ قلوب اليهود إلى ’صهيون‘ والقدس… إنّ صهيون والتوراة شـيئان مقدَّسان يكمّل كل منها الآخر”.

 

وكانت هذه الحركة السياسية الدينية، وغيرها من الحركات الأصولية، ترى أنّ وجود الشعب اليهودي يعتمد على محافظته على التوراة، والممارسات والشعائر الدينية، والعودة إلى أرض الآباء. كان الاتجاه الأصولي المتـشدّد داخل المنظومة الفكرية والسياسية عند اليهود، قبل إعلان قيام الدولة (في عام 1948) يتطلّع إلى الولوج في العقل اليهودي، واستخدام القضية الدينية من أجل تكوين أغلبية متـديّنة، تمهيدًا لقيام دولة دينية في فلسطين، يكون الحُكم فيها مبنيًّا على مبادئ التوراة.

 

وقد كان هذا الأمر يهدد الهيكل العلمانيّ للحركة الصهيونية، ولكننا نرى أنّ قادة المنظمة الصهيونيّة قد سمحوا لهذه التيارات بالدخول إلى المنظمة الصهيونية والنمو فيها. وكان هذا بهدف جذب اليهود من ذوي الميول الدينية للدخول في ميدان السياسة، لاستغلالهم في قضايا التـشبّث بمواقف متشدّدة حيال التوسّع والاستيطان، والحـدّ من مخاطر الحاخامات الإصلاحيين من اليهود، الذين دعوا إلى الاندماج داخل المجتمعات التي يعيشون فيها، في أوروبا وأميركا، وإنكارهم لفكرة أرض الميعاد الممنوحة من الله لليهود ووجوب العودة إليها.

 

وقد نشأ العديدُ من التوجّهات اليهودية المتشدّدة، من حركات وأحزاب مثل “العامل الشرقيّ”، و”الفتى الشرقيّ”، و”الشاب العامل الدينيّ”… كانت في مجملها تـتبنّى فكرةَ الحق التاريخي لليهود في فلسطين، ومفهومَ “أرض إسرائيل الكاملة” التي تتعزّز بالاستيطان الكامل فيها، وضرورةَ بناء الدولة والمجتمع بحسْب تعاليم الشريعة اليهودية، والحفاظَ على وحدة الشعب اليهودي وخصوصيتِه، وعـدمَ إعطاء أي فرصة للابتعاد عن التقاليد اليهودية أو الاندماج في المحيط الذي يعيشون فيه (إذا كان هذا المحيط غير يهودي).

 

وبحسْب هذه الحركات، فإنّ قيام دولة يهودية ممكن جدًّا، في ما لو اعتُرِف بأن التوراة هي دستور الدولة، وأن لها سيادة فوق إرادة الحكومة. وإذا ما لم تقم الدولة على أساس التوراة، فإنها تمثّـل إنكارًا للتـاريخ وإنكارًا لكفاح الشعب اليهودي الذي استمرّ مئات السنين.

 

أصولية “شـاس”.. وتغـريد “حرّاس المدينة” خارج السرب

 

الحاخام عوفاديا يوسف

 

من أشـدّ التيارات والأحزاب الدينية والأصولية في إسرائيل، اليوم، هو “حزب الاتحاد الشرقي العالَميّ لحرّاس التوراة” (شاس)، بزعامته الروحية المتمثـلة بالحاخام “عوفـديا يوسف” – الحاخام الأكبر لليهود الشرقيّين. ويجد حزب “شاس” قاعـدة مؤيّديه في أوساط المتـديّنين الحريديّين عمومًا، والشرقيين منهم خصوصًا. يجذب هذا الحزبُ جماهيرَه باعتماده خطابَين؛ الأول دينيّ حريديّ، والآخر طائفيّ صرْف، ويركّز على اليهود الشرقيّين الآتين من دول العالم الإسلاميّ وأفريقيا.

 

ويحـرّم هذا الحزب على أعضائه مخالطةَ “الأغيار” ومحادثـتَهم، بل حتى يمنعهم من مخالطة اليهود العلمانيّين أو مصافحتَهم. ويؤكّد الحزبُ على استحداث رقابة دينية متشدّدة حتى على الطعام اليهوديّ (الذي ينبغي أن يكون كوشير أي “حلال”)، والقضاءِ على مظاهر الانحلال في المجتمع (ومنها تجنيد الفتيات في الجيش)، وتحويلِ التعليم في إسرائيل إلى تعليم دينيّ يتلاءَم مع النظرة الأصولية الأورثوذكسية.

 

لكنّ بعضًا من الجماعات اليهودية المتدينة، لا تعتـرف بإسرائيل دولةً لليهود. فبحسْب الحزب الأصولي “حرّاس المدينة” (ناطوري كارتيا)، مثلًا، فإنّ كيان دولة “إسرائيل”، هو ثمرة فئة باغية — “الصهيونية” — لم تنتظر ظهورَ المسيح ليُعلن قيامَ الدولة ويُعلِيَ شأنَ اليهود في العالم؛ بل إنها (الصهيونية) سـرقت دورَه وادّعت بأنها هي المسيح المخلّص لليهود من القهر والظّلم والاضطهاد.

 

ودار جدل واسع بين تيارات دينية أصولية أخرى، في إسرائيل، عن ماهيّة الدولة اليهودية، وما هي حدودها الدينية والتاريخية، وهويّةِ الشعب المسموح له بالعيش في الأرض المقدّسة.

 

وتشير الدلائل إلى أن التيار الأصولي، حاملَ راية اليهودية الأورثوذكسية، يمرّ بفترة ازدهار ونموّ؛ يقابله ضعفٌ وانقسامات داخل حركات “الاعتـدال”، ما قد يمهّـد لسيادة الهوية اليهودية المتشدّدة في إسرائيل قريبًا. فمع كون اليهود المتـديّنين لا يشكلون أكثر من 30% من المجتمع الإسرائيلي؛ فإنّ المتطرّفين (الأصوليّين) منهم هم الأعلى صوتًا، وإن هذه النسبة هي الأكثر تأثيرًا داخلَ المجتمع الإسرائيلي الذي يتّسم كثيرًا بالـ”تـديّن”. لهذا سيطر اليهود الأورثوذكس على قضايا الأحوال الشخصية، مثل الزواج والطلاق والحلال والحرام والدفن وغيرها… وهي أمور تهمّ اليهود كثيرًا في إسرائيل.

 

الأصولية اليهودية تُسيِّر السياساتِ العالمية

 

 أفرز الفكر الأصولي اليهوديّ مجموعة من الوصايا السياسية الدينية ذات الأثر المهمّ على السياسات العالمية. وأبرز تلك الوصايا؛ أولًا، “وجوب تحقيق مصلحة إسرائيل، بوصفه واجبًا دينيًّا، واعتبارُ سكّان فلسطين العَرَبَ كفّارًا يتسحقون القتـلَ والإبادة”.

 

ثانيًا، “اعتبار الاعتقادِ بظهور المسيح المنتظَر (في القدس)، الأرضيّةَ للاستعداد لظهوره، ببناء الهيكل وتمكين الدولة اليهودية بامتلاك الأسلحة المدمّرة، وإبادة الآخرين بوصفها شرطًا لمجيء المسيح”.

 

ثالثًا، “نشوء دولة ’إسرائيل‘ بأمر إلهي وبإرادة ربّانية، وكونُها دولة يهود العالم أجمع، ووجوب دعمها وحمايتها”.

 

رابعًا، “الاعتقاد بأن اليهود هم شعبُ الله المختار، وبالتالي تبريرُ تنصّلِهم من الالتزام بما تقـرّره الهيئات الدولية، لأنها “قرارات بشرية”. (وبهذا يُفهَم عدمُ قبول ’إسرائيل‘ بالانضمام إلى المعاهدات الدولية، كمعاهدة ’حظر الأسلحة النووية‘ وغيرها، وعـدمُ التـزام الكيان الإسرائيلي بعشرات القرارات الدولية، سواء صدرت من مجلس الأمن أو من الجمعية العامة للأمم المتحدة”.

 

خامسًا، “وجوبُ – دينيًّا – إضعافُ الشعوب الأخرى، والحؤولُ دون امتلاكها عناصرَ القوة (كما في مواقف إسرائيل من المفاعل النووي العراقي والإيراني، والقدرةِ العسكرية المصرية والسورية)… تمهيدًا، أصوليًّا يهوديًّا، لإزالة وجود الآخرين واستئصالِهم. لذلك نشهد إصرارَ ’التوراتيّين‘، داخلَ إسرائيل وخارجَها، على حرمان دول العالم الإسلامي من تملّـك التكنولوجيا المتطوِّرة؛ والتضامنَ مع إسرائيل عندما دَمّرت المفاعلات النووية في البلدان العربية والإسلامية (كما في تـدميرها المفاعلَ النوويّ العراقي ومؤسساتِ الدفاع السورية).

 

تاريخ الأصولية يفضح “وسامة” المسيحية!

 

 يقول الكاتبان إن المتتبّع للقضية الأصولية في الديانة المسيحية، يواجه صعوبة في تتبّع الأسس الدينية (من منظومة شرائع وقوانين) لهذه الظاهرة، على النقيض من الديانة اليهودية التي تظهر الملامح العامّة للفكرة الأصولية، فيها، جلية في نصوصها الدين

 

LEAVE A REPLY