أكذوبة “الثوابت الوطنية” مقال لـ: د. عيدروس نصر

433

على مدى عقود جرت تنمية ثقافة تقوم على تغييب الوعي وغسل الأدمغة وحشوها ب”مقدسات” وهمية، ومسميات يتُحَرِّم على الناس الاقتراب منها، وتجريم مواقف ومسالك لا علاقة لها لا بالإجرام ولا بالحقيقة ناهيك عن الإيمان والمقدس الديني إذا ما اقتربت من تلك المسميات وحاولت ولو محاولةً طرحها للنقاش، ليصبح كل من يفكر في التوقف عند تلك المسميات لمجرد التصويب أو التساؤل والاستيضاح، مجرماً قد يتعرض للقتل، وقد حصل هذا مراراً على مسمع ومرأى من الجميع في عديد من الحالات ليس هنا مقام تناولها.

سأتوقف على عجل عند المسميات التي أطلق عليها نظام 1994م “الثوابت الوطنية” واعتبرَ الخروج عنها جرماً وهي المسميات “الطوطمية” التي أصبغ عليها فقهاء السلطان صفة “الثوابت” “الوطنية.

كان إعلاميو نظام ما بعد 7/7 الذين احترعوا مقولة “الثوابت الوطنية” يقولون أن “الجمهورية” و”الثورة” من “الثوابت الوطنية” التي لا يمكن مناقشتها أو الحديث عنها، ولست بحاجة إلى القول أن موقفي الشخصي ينطلق من تحيُّزي المطلق إلى الجمهورية والثورة في اليمن، شمالا كان أو جنوبا، لكن إيماني ينطلق من حقيقة أن هذه المسميات هي تعبير عن أحداث وظواهر تتصل بنشاط بشري وموقف إنساني سياسي وهي من الأمور المتغيرة والمتحركة والقابلة للاتساع والتضيق أو البقاء والاندثار، تبعا لعوامل وشروط بقائها أو زوالها.

إن معايير هذه المفردات، التي جعلوها “ثوابتَ”، لا تتوقف على مجرد منطوقاتها اللغوية، بل على ما تقدمه للناس من مصالح وما تصنعه لهم من منجزات حياتية وما تلبيه لهم من احتياجات وتطلعات قيمية ومادية، وبمجرد شعور الناس أنها لم تعد تعبر عن تمنياتهم ولا تحمي مصالحهم ولا تقدم لهم الحرية والعيش الكريم وأسباب النهوض والازدهار فإنها تتحول في نظرهم إلى مجرد عبارات مفرغة من أي معنى ناهيك عن خلوها ممن أي صفة من صفات القداسة أو حتى السمو الاعتيادي، أما الذين يوظفون هذه المفردات توظيفا سياسياً فإنهم يخفون وراء هالة القداسة تلك مصالحهم العابرة والمؤقتة وغالباً غير القانونية والقائمة على شقاء ومعاناة وآلام الشعب ودماء وأرواح أبنائه، ولن نحتاج إلى مزيد من الأدلة للبرهان على أن نظام 7/7 هو أول من تخلى عن هذه “الثوابت” عندما فقد أساطينه مواقعهم في الحكم واستدعوا ألد أعداء “الثورة” وأعداء “الجمهورية” ليسلموهم زمام البلد نكايةً بثورة الشعب ضدهم وعناداً لرئيس جمهورية انتقالي لم يكن محل رضاهم ولا ينتمي إلى جغرافيا وجهويات أصحاب “الثوابت”.

منذ أيام تلقيت على خدمة ووتسأب رسالةً تتضمن حديثا متلفزاً لزميلٍ برلماني من أصدقائي القريبين كان يتحدث عن القضية الجنوبية وثورة الحراك السلمية، ومما قاله أنه رغم مظلومية الجنوب والجنوبييين فإن “الوحدة اليمنية كالصلاة” هي من “الثوابت الوطنية”، وتساءل مع المذيع الذي كان يتحدث إليه: هل يمكن أن تناقشني في الصلاة؟ وهذا النهج الذي يمكن وصفه بالتضليلي والشعبوي والتهييج النفسي يقوم على غسيل المخ، وهو ينطلي على الكثير من البسطاء، الذين ينسون موضوع النقاش وينتقلون إلى موضوع المقدس الديني الذي يهيمن على الوعي الجمعي فيأتي الرد أوتوماتيكيا كرد الآلة الخرساء: “نعم لا يمكن النقاش في الصلاة” وهكذا يهب الناس لقتل كل من يفكر في مناقشة هذه القضية وما شابهها من القضايا التي لا علاقة لها لا بالدين ولا بالصلاة ولا حتى بالوضوء.

تذكرت هذا عندما بلغني نبأ اتحاد كرة القدم اليمني الذي فرض غرامةً مالية على نادي الوحدة العدني لأن جمهوره رفع أعلاماً جنوبية في إحدى مبارياته، وهو مسلك استعلائي وديكتاتوري بامتياز يعتقد أصحابه بأنهم بذلك يكرسون عند جمهور وحدة عدن حب “الوحدة اليمنية”، ونسوا أن هذا العلم هو جزء من التاريخ الجنوبي وأن اعتزاز الجنوبيين به ينبع من اعتزازهم بتاريخهم وهويتهم عندما لم يجدوا ما يعتزون به في حاضرهم، لأن الناس عندما يفقدون الأمل بحاضرهم ومستقبلهم يرجعون إلى ماضيهم وهويتهم الحقيقية.

إن العلم الجنوبي يحمله ملايين الجنوبيين ويرفعونه فوق منازلهم ومنشآت عملهم، ولا يمكن لأحد أن يعاقبهم على سلوكهم هذا.

لن أخوض طويلا في هذه الجزئية فنهج العقاب والإكراه هو نهج الساسة المفلسين العاجزين عن زرع القناعات وصناعة الرضى وتوطين القيم والمثل لإجبار الناس على تبني قناعات هؤلاء الساسة بالإكراه، وهي ثقافة لم تصمد طوال ربع قرن، لكنني أعود للتأكيد أن مفهوم “الثوابت الوطنية” هو اختراع استبدادي يمكن وصفه بأحدى أدوات الإرهاب الفكري، لأن “الطوطمية” وثقافة “التابو” القائمة على “المحرم والمقدس” لا تبني مشتركات، ولا تصنع علاقات تكافؤية بين أفراد المجتمع بل تقوم على أساس الإملاء والتلقين من قبل طرف يدعي أنه “الوصي” و”الكامل” و”الطاهر” و”النقي” وأطراف

متلقية ليس من حقها حتى التساؤل أو الاختيار ومن أراد أن يخالف ولو على سبيل الاستفهام اللفظي فإنه يكون قد تصدى لـ” المقدسات” ويجب إخراجه من الملة والدين وربما من الحياة.

المتشبثون بهذه “الثقافة” لا يؤمنون لا بقدسيتها ولا حتى بقيمتها المجتمعية لعامة الناس، بل ينطلقون من مصالح دنيوية حزبية ومكاسب أنانية يقوم معظمها على الغش والنهب والفساد والإفساد وارتكاب الموبقات التي تحرمها الأديان والشرائع والسنن وعلى رأسها الدين الإسلامي الذي يتسترون وراءه، لكنهم يدوسون على كل تلك المقدسات ليحولوها إلى أدوات للخداع والنصب والافتراء والتزوير والضحك على البسطاء، وقد رأينا سرعة تخليهم عن “الثورة ” والجمهورية” والديمقراطية” وغيرها من “الثوابت ” والتضحية بها لحماية مصالحهم وثرواتهم وسلطانهم وطغيانهم.

ولهذا السبب يربطون “الوحدة” بـ”الصلاة” و”الركن السادس” و”الاعتصام بحبل الله” وغير ذلك مما يستطيع أن يدحضه أي طالب في الثانوية أو حتى في الاعدادية

LEAVE A REPLY