المانيا(المندب نيوز)
-
لم تطرح التغيرات التكنولوجية المتسارعة على المتابعين، تحديات تتصل بضرورة مواكبة مقتضياتها واستيعاب تعبيراتها وأدواتها ولغتها فقط، بل فرضت أيضا ضرورة مراجعة وتحديث اللغات لجعلها مواكبة لهذا الزخم من المنجز البشري الجديد، التحديات طالت أيضا الإعلام بشتى صنوفه، وبات مدعوا أكثر من ذي قبل إلى أن يهاجر صوب مفاهيم “الملتيميديا” وأن يخلع معاييره وتقنياته التقليدية عله يلحق أو يبدد الفجوة التي تزدادا اتساعا بينه وبين الإعلام الجديد. القضية تزداد خطورة في الفضاء العربي الإسلامي، الذي بات أمام حتمية طرح سؤال مصير اللغة العربية، وقدرتها على استيعاب الوافد التكنولوجي الجديد بكل مجالات استعماله. سؤال الترجمة والتعريب ومدى قدرة اللغة العربية على استيعاب لغة العلوم والتكنولوجيا أعيد استدعاؤه اليوم مع ألفاظ ومصطلحات جديدة صارت رائجة ومتداولة.
ليس غريبا أن يحتاج الصحافي إلى تنويع لغته، ومن تعود على لغة الصحافة الورقية المنسابة الهادئة، سيقف مترددا أمام لغة الصحافة الإلكترونية المطعمة بـ”هاشتاغات” الاستطراد والعلامات الإلكترونية. لا بد أن تلحق اللغة العربية بالعالم الجديد. هل من المجدي حقا أن نقول “الشبكة العنكبوتية” أو “الموقع الإلكتروني” أو “الحاسوب” أو حتى “البريد الإلكتروني”؟
لماذا لا نُعرّب المصطلح ونذهب إلى الأصل الأجنبي فنعربه، فنقول” النت” و”ويبسايت” و”كومبيوتر” و”إيميل”و”سوشيال ميديا”، أو”فيسبوك”؟ أليست هذه هي كلماتنا في لغتنا اليومية، ألسنا نقول “لم أجد شيئا عنه على النت”؟ ونقول” كومبيوتري عاطل، سأستخدم لاب توب إبني” و”إيميلي ممتلئ، لا بد من تفريغه”؟ لماذا يجب أن يكون المصطلح المقابل لهذه المفردات عربيا، في زمن تتسارع فيه تطورات عالم “سايبر” إلى درجة لن تلحق بها أي لغة؟
لا بد من جهة تتبنى تطوير اللغة العربية بما يلائم الجري المتسارع لعالم ديجتال ولوغاريتم وسايبر، وهذه الجهة يجب أن تنسلخ عن رؤى مجامع اللغة العربية التي نشطت مطلع ومنتصف القرن الماضي لتعريب مفردات الثورة الصناعية وعالم الكهرباء، فترجمت بضعا منها وفشلت في تدارك أغلبها. لا بد من جهة تتعامل مع تقنيات سايبر بنفسها لتفهم كيف تورّد المصطلح إلى اللغة العربية. فكيف يمكن ترجمة كلمة “سايبر” مثلا ؟ وما جدوى ترجمة “ديجيتال وورد” إلى “العالم الرقمي”، ماذا يفهم السامع من تعبير”العالم الرقمي”؟ في خيال من لا يعرف هذا التعبير أرقام تتراءى وتتزاحم، وهذا ليس لب الموضوع، بل هو جانب نظري منه.
في تصوري أنّ هذه المقاربة ستخلق لغة موازية للغة سايبر سوف تفشل في مواصلة الحياة بعد حين من الزمن. لنعد إلى جهود مجامع اللغة العربية، التي ترجمت على سبيل المثال كلمة تلفزيون إلى “المرئي المسموع”، كم من الناس يسمي اليوم هذا الجهاز “المرئي المسموع”؟ وقالوا في ترجمة السندويش”الشاطر والمشطور وما بينهما” وهو تعبير ولد ميتا وبات مدعاة للسخرية والاستهزاء.
في هذا الاتجاه قامت ضحى الأسعد، وهي مختصّة في مجال التربية، بإطلاق مشروع في لبنان أسمته “أصحابنا” ويهدف “إلى بلورة رؤية جديدة للمرحلة التعليمية الأساسية، تستند إلى التقنية التعليمية المرنة التي تسمح بإيصــال المعلومات الأكاديمية والثقافية بأسلوب ممتع وسهل ومعـــاصر بعـــيداً عن التـــقليد، ليســـتطيع المتعلم التوغل في عمق لغته وثقافته العربية الأصيلة”.
أليس الأجدى هنا تعريب المصطلحات كلها وبسرعة ونشرها في كتب ومنشورات، بل إدخالها كما هي إلى وسائل الإعلام ولغة الصحافة
لكن مثل هذه المبادرات الفردية قد لا تكفي للحاق بركب التطور “التكنولغوي” إن صحّ الوصف، ولا بد من تدخل أكاديمي سريع بمستوى مؤسسات دولية ومؤسسات عربية تدعمها الدولة لردم الهوة التي ما فتئت تتسع بين النظري المتباطئ، وبين الحقيقي الذي يتبادله الشباب على هواتفهم المحمولة كل لحظة فيصنع لغتهم. الشباب يقولون “تاغ” أو”لايك” أو “أنفلو” أو”بلوك” لوصف نشاطاتهم على فيسبوك، كما يقولون ”تويت” و”بوست” و”واتس آب”، وفي الأفعال، يقولون “غوغلها” أي إبحث عنها في غوغل، ويقولون”يُفيبر” أي يتكلم على شبكة فايبر، أو “نروح تانغو” أي نتكلم على شبكة تانغو، وهكذا، والأمر لا يتوقف بل يتوالد كل لحظة، ومقابله تعجز اللغة العربية -وكل اللغات الحية الأخرى- عن ملاحقة الحدث بمفردات تناسبه. أليس الأجدى هنا تعريب المصطلحات كلها وبسرعة ونشرها في كتب ومنشورات، بل إدخالها كما هي إلى وسائل الإعلام ولغة الصحافة، وإلى مناهج التخصص الأكاديمي والمدرسي دون تغيير في اللفظ، ولكن بحرف عربي لتسهيل تداولها؟
وعلى المستوى نفسه يبدو مصطلح “العالم الافتراضي” الذي استُعير للتعبير عن “سايبر” غامضا ومربكا، وفي هذا السياق يقول الباحث شاكر عبدالحميد “ومن المفاهيم الخاطئة حول مصطلح ‘افتراضي’ الاعتقاد بأنَّه يتضمن الإشارة إلى شيء غير واقعي، أو أنَّه يشير إلى شيء يوجد عند مستوى متخيّل فقط”.
ومن هذا المنطلق بات تعبير”الواقع الافتراضي” شائعا في الدراسات التي تهتم بالثقافة الرقمية، وأصبح له حضور قوي في الدراسات النقدية والإعلامية، لكنه في النهاية مرتبك مبهم ولا يؤدي إلى الغرض المنشود.
المتخصص بين التقنيات والبلاغة
لكي يتولى مختص الجمع بين اللغة العربية وبين معجم مصطلحات سايبر الحديثة، لا بد أن يكون مثل هذا المرجع ملمّا بكلا الأمرين، فلا يُؤتى بمتخصص في اللغة العربية أزهري أو أكاديمي لم يتعلم بعد حتى التعامل مع “كي بورد” وما زال يكتب بالقلم، ويطلب منه تأليف معجم عربي بالمصطلحات الجديدة.
اللغة العربية تعجز عن ملاحقة الحدث بمفردات تناسبه
نحن نتحدث هنا عن عالم معرفي يتقنه الجيل الأصغر في العالم العربي، لكنه للأسف جيل ابتعد مسافة شاسعة عن اللغة العربية، حتى باتت بلاغتها غريبة عنه متعثرة في فمه، درداء يلثغ بها دون خجل لفداحة الأخطاء التي يرتكبها.
الحلول تبدأ من الصحافة، والصحافة العربية المتفوقة سارعت إلى ربط الورقي بصحافة الأونلاين، فبات لكل صحيفة ويبسايت/موقع يعيد نشر كل المادة التي تظهر على الصفحة الورقية، وهذا الحل يوفر للصحيفة مساحة قراءة تفوق مئات المرات مساحة القراءة الورقية.
لجعل كل هذا الجدل الافتراضي واقعيا لا بد من مناقشة قدرات الكادر الصحافي العامل في المجالين، وهنا يواجه العاملون في الصحافة إشكالية التحدي الزمني والعمري مرة أخرى. من يتقنون أصول الصحافة والإعلام التقليدي والورقي، لا يتقنون غالبا أصول صحافة أونلاين. نعم، هناك جيل من الصحافيين يعيش في الغرب ويعمل في الصحافة العربية الصادرة في بلدان غربية، وقد أدرك السبق وبات يتقن صحافة أونلاين، لكنه ما زال محدود العدد.
مشكلة كادر صحف أونلاين أنّه يخلط ويتعلم من لغة صحافيي الوكالات، وهي في الغالب لغة مترجمين ضعفاء يتقنون بعض العربية بشكل أقل من اتقانهم للغة الأجنبية التي يترجمون منها، فتأتي ترجماتهم مضحكة ضبابية، مثلا تشيع كثيرا تعابير من قبيل “خرج الملايين من العراقيين في تظاهرات”، وهو تعبير مضحك اعتادت هيئات التحرير والصحف على تداوله. وفي العدد وتمييز العدد تتوالد أخطاء لا حصر لها، وتصبح بتكرارها على النت أخطاء مليونية شائعة يتداولها الجميع دون وجل.
“الآلاف من السوريين يهاجرون عبر الحدود التركية”، والسؤال هو لماذا إدخال ألف لام التعريف على العدد ولماذا “مِن” هنا؟ الصحيح أن يكون التعبير” يهاجر آلاف السوريين عبر الحدود “، لكن المحرر لا يتقن حكم ما بعد كلمة آلاف، وهو متردد في أنه مرفوع أم منصوب، فيلجأ إلى حل وضعه المترجمون في وكالات الأنباء “أعداد من السوريين…أو المئات من السوريين، أو…الآلاف من السوريين” حيث أن الحكم واضح في ما بعد حرف الجر مِن!
لماذا يصر المحررون على تعريف الأرقام بألف ولام ثانية، رغم أنّها أبلغ، وأكثر جزالة دون هذه الإضافة؟
آلاف يحولونها إلى الآلاف، ومئات تصبح المئات، وملايين على نفس القياس تصبح الملايين رغم أنها اسم أعجمي؟
مشكلة كادر صحف أونلاين أنّه يخلط ويتعلم من لغة صحافيي الوكالات، وهي في الغالب لغة مترجمين ضعفاء يتقنون بعض العربية بشكل أقل من اتقانهم للغة الأجنبية
هم لا يعلمون مثلا أن “آلاف” منصوبة ومرفوعتها هي “ألوف”، ولا يعرفون أنّ “مئات” منصوبة ومرفوعتها “مئون” ومجرورتها “مئين”، وهكذا يتباعد النحو العربي العملاق منهزما أمام سرعة تدفق المعلومات على سايبر.
الخطأ الثاني هنا أنّ “ملايين” كلمة أجنبية معربة، وكل اسم أجنبي معرّب لا يأخذ ألف ولام التعريف لأنه نكرة معرفة بالعجمة، وهذا ما يجهله أغلب صحافيي الأونلاين. نقول: الرئيس العراقي السابق جلال طالباني، ولا نقول الطالباني. ورئيس اقليم كردستان العراق مسعود بارزاني، ولا نقول البارزاني. ونقول علي خامنئي ولا نقول علي الخامنئي. ونقول خميني ولا نقول الخميني. ونقول رجب طيب أردوغان، ولا نقول رجب طيب الأردوغان.
لتسليط مزيد من الضوء على ذلك أدعو الصحافيين خاصة إلى مقارنة هذه الأخطاء بالأسماء الأجنبية المتداولة، فهل يجوز القول “مارك الزوكربيرغ” في لقب مؤسس فيسبوك؟ وهل يجوز القول “دونالد الترامب” أو “هيلاري الكلينتون”، أو “ماو تسي التونغ”؟
الصحافيون في عالم الأونلاين تعودوا أن يحفظوا الأسماء الأخيرة المذكورة أعلاه دون ألف ولام، ويخطئون في الأسماء الأخرى التي أدرجتها في البداية والألفاظ المشابهة لها لأنهم لم يسمعوها، ولا يملكون مرجعا يؤيدها.
المشكلة الأخطر في المبني للمجهول، فأغلب صحافيي الأونلاين لا يعرفون حكم ما بعد الفعل المبني للمجهول، وهكذا يستعينون بالتركيب الضعيف، فبدلا من القول “بُحثت المسائلُ” يقولون” جرى بحث المسائل”، وعوضا عن القول “قُرئت كلمةُ الرئيس بالمناسبة” نراهم يقولون “جرت قراءة كلمة الرئيس بالمناسبة”، والأمثلة بلا عدد، إنهم في الحقيقة يخافون المبني للمجهول. وحين يدور جدل في إحدى غرف التحرير حول كلمة ما، يذهب المتخاصمون إلى غوغل ويضعوا الكلمتين ليعقدوا مقارنة في عدد مرات ظهورها ليكون العدد الأكبر هو الفيصل النهائي الذي يُرجّح قاعدة “خطأ شائع خير من صواب مهجور” وهكذا تتناسل الأخطاء بلا نهاية.
النقص الفاضح الآخر في معرفة محرري صحافة الأونلاين، هو الجهل بتركيب المادة الصحافية على الأونلاين، فالعناوين الرئيسية يجب أن تكون قصيرة، والعناوين الفرعية واجبة وليست تكميلية، والأهم يتقدم على المهم، والخلفية التاريخية تأتي في نهاية المقال وليس في مقدمته، والهوامش غير مطلوبة لأنّ المقال ليس بحثا أكاديميا، كما أن الهاشتاغات المؤدية إلى مصادر ومواضيع ذات صلة واجبة وليست كمالية، على أن لا يُبالغ في وضعها فيضيع القارئ في الاستطرادات.
المستقبل لصحافة الأونلاين، وهي صنعة تستلزم ممن يزاولها إتقان عدة مهارات يتداخل فيها القديم والجديد، فاللغة العربية معرفة تحفظها بلاغة القرآن
برستيج الصحافة الورقية المحتضر
في السياق نفسه يشيع في العالم العربي، فحسب، فهمٌ مفاده أنّ الصحيفة الورقية لها مكانة أكبر في نفوس الناس، وهم يعبّرون عن ذلك بوصف “برستيج”. ما حقيقة هذا الاعتقاد؟ لا حقيقة له، فالحقيقة هي أنّ الصحافة الورقية تحتضر، وأرقى الصحف هنا في الغرب لم تعد تغطي مبيعاتها نفقات طباعتها، هذا إضافة إلى أنّ الصحف الورقية هي في الحقيقة حرب على الأشجار المسكينة، فتقضي على آلاف منها كل يوم.
المستقبل لصحافة الأونلاين، وهي صنعة تستلزم ممن يزاولها إتقان عدة مهارات يتداخل فيها القديم والجديد، فاللغة العربية معرفة تحفظها بلاغة القرآن، فهل يملك الصحافيون وقتا لقراءة القرآن وتأمل بلاغته؟ مع هذه القدسية، فإنّ اللغة العربية قابلة للتطوير والإضافة وعلى الصحافي الجديد مراعاة ذلك إتقانه.
فوق ذلك، على صحافي الأونلاين، إن صحّ الوصف، أن يتقن التصوير الفيديوي والفوتوغرافي، وأن يتقن التسجيل الصوتي السريع، واستخدام سوشيال ميديا بكل فروعها، ويتقن الخلط في استخدام وسائل إعلام الأونلاين، وهو ما يسمى بلغة الصحافة “ميلتي ميديا سكلز”، كما إنّ عليه أن يُتقن فنون أنفوغرافيك وصناعة ملفات الصور أون لاين فهي وسيلة ناجحة لإيصال المعلومات بسرعة، ويفضّلها جمهور الأونلاين بلا تعب لأنها لا تتطلب منه سوى مرور سريع على المضامين، فيحصل على صور تعززها المعلومات ويبقى كل ذلك في ذاكرته التي تنهمر عليها آلاف المعلومات كل دقيقة عبر الأونلاين والسوشيال ميديا.
كل هذا يجب أن يتأهل به صحافي الأونلاين، إضافة إلى أساسيات الصحافة التي نعتبرها من البديهيات، علاوة على قائمة ضخمة من الاتصالات لأنّ أغلب ميزانيات الصحف ومنافذ الإعلام الكبرى لم تعد تُنفق على مكاتب العلاقات العامة فيها، وأوكلت الأمر للصحافيين أنفسهم.
صحافي الأونلاين هو “الدجاجة التي تبيض ذهبا” في إعلام اليوم، فهو قد اختصر العشرات من وظائف الصحافة التقليدية في مهاراته التي تتكاثر بشكل سريع بلا رحمة كل يوم.