( 1 )
استوى على كرسي المسئولية .. منتشياً ..
ابتسم بخبث .. خاطب نفسه ” الآن .. لقد حان موعد الانتقام ” ..
لم يجدّد .. لم يطوّر .. لم يعدّل .. لم يصلح من فسادٍ ..
بل في عهده .. زاد الفساد ..
في بدء تولّيه .. انهمك في تصفية الحسابات ..
أبْعَدَ هذا .. خلف عين الشمس ..
رمى بذلك .. إلى ما وراء الأفق ..
والخلاصة أنه ..
فعل بخصومه الأفاعيل .. وصنع بمخالفيه الصنائع..
بعد حملة الانتقام الشاملة ..
هدأت في نفسه حِمَمُ التشفّي ..
خمدت روح الثأر .. والقصاص ..
مع الواقع الجديد .. وبالرغم من كرسية الوثير ..
كانت ذاتُه ضائعة .. لكنه تمادى ..
بقيَ على طغيانه دهراً ..
تقوقع خلف متارس الأحقاد .. بنى حول نفسه سياجاً من الكُرْه ..
مضَت الأيام .. دارت دورة الكراسي ..
رمَتْهُ قوة طردها المركزية ..
وفي ذات صباح .. صار من دون الكرسيِّ .. وحيداً ..
لم ينسَ المظلومون أيام البؤس التي مرّت بهم ..
ومثلما رماهم يوماً .. خلف المجهول ..
رمَوه إلى عالم النسيان .. رَدَموا حفرة الماضي البغيض ..
( 2 )
نشأ منذ الصّغر في نفق الفقر المظلم ..
عصب على الجوع بطنه .. وعاش متعففاً ..
قاوم المسغَبة .. عانى الأمرّين ..
لكنّ اليأس لم يعرف إلى نفسه سبيلاً ..
رغم الفقدِ .. أكمل تعليمه .. تحدى الظروف ..
وواصل المشوار ..
تكللت هامته بالأزاهير .. جنى ثمار جهده ..
نال الشهادة بعَرَق الجبين ..
لم يمدّ كفّه يوماً .. مستجدياً ..
غناهُ .. كان في قلبه .. سلك القناعة منهجاً ..
منذ الصغر .. يحلم بومضة نور .. تنتشله من وهدته ..
وبعد أعوام آن له أن يمضي سعيداً ..
تحت شلاّل المطر ..
( 3 )
تمَشْيَخَ .. لكنّه ليس بشيخ ..
تفيهق .. تقعّر .. تبعّر .. تمعّر ..
جهدُه تبخّر .. غير أن الجميع يعرف حقيقته .. المؤسفة ..
كان في المساجد .. واعظاً ..
في الأسواق بيّاع مشترٍ .. بالدين الحنيف ..
حكيمٌ فيما يهمّه ويعنيه ..
خرّاء .. هرّاء .. إن أضرّ شيء بمصلحته ..
هادئ في حضرة المال .. وادع في بلاط الجاه ..
عجيب في ميدان الهنجمة ..
يعكّ ويحكّ .. فيما لا طائل منه ..
وعند الجدّ .. يمسي نعامة تطلب الغذاء والمأوى ..
تدسّ وجهها في التراب ..
لا يعنيها إن جاء الطوفان .. من بعدها .. أو غاب ..
تلك قصة من تمشيَخ .. وليس بشيخ ..
( 4 )
اعترضته في الطريق .. من غير ما مبرّر .. !
مدّت يديها باستجداء .. ورنَتْ إليه ..
كانت تعبيرات وجهها تشي بكل شيء .. عدا ما تطلب ..
بُهتَ في أول الأمر .. استجمع شجاعته ..
نظر إليها متسائلاً .. لكنها ابتسمت في وجهه الصبيح ..
كان شاباً وسيماً .. بجسم رياضي متناسق ..
أما هي .. فكانت روحاً هائمة .. تسعى في كل مكان ..
” ماذا تريدين ؟ ” سألها .. أجابته ” مسكينة .. لاجئة من دولة أخرى ” ..
نظرتها كانت تطلب كل شيء .. سوى المسكنة ..
حار في أمره .. ولم يعلمْ ماذا يفعل .. أو يقول ..
أخرج مائة ريـال ودفعها إليها .. ثم ولى هارباً ..
كان فاراً من فتنة رآها فاغرةً فاها .. تتنزى منها الشهوات ..
شردَ من تلك الغريبة .. أما غيره ..
عاجلاً أم آجلاً .. ستصيبهم بعدواها .. المحمومة ..
( 5 )
وفي يوم الجمعة .. وما أصعبه .. جلس لاستماع الخطبة ..
غيرَ أنه .. رغم المقاومة غفا ..
سقط رأسه بين كتفيه .. وتسارعت أنفاسه ..
فجأة .. صحا مبهوتاً .. نظر يمنة .. ثم يسرة ..
فرك عينيه .. مسح وجهه بكفة ..
لكن لا فائدة .. غفا مجدداً ..
لم يدرِ المسكين .. ماذا يقول الخطيب المبجّل ..
يصيح في وادٍ .. وهو في وادٍ آخر .. يقاوم النعاس ..
رأى النائمين كثر ..
رؤوساً تهتزّ .. جميعها تتمايل من النعاس ..
سكينة تبدو مظاهرها .. لكنها سكينة النوّم ..
ومع المعاناة .. تمنى ولو كلمة تثقب رأسه .. على الأقل ..
لكي يبقى صاحياً ..
( 6 )
من فوق المنبر .. صاح محذراً .. احذروا هذا المذياع .. الخبيث ..
هو حرام .. مفاسده كثيرة .. وللعلماء فيه قول بالتحريم ..
مضى الزمن ..
من خلف صندوق المذياع .. لعلع صوته الجهوري ..
لقد ابتُلينا بظهور هذا التفاز .. الفاسد المفسِد ..
أفسد النساء .. الشباب .. فكك الأسر ..
أيها المستمعون ! … أحذركم من شره المستطير ..
إنه حراااام .. حرااام ..
مضى الزمن ..
على شاشة التلفاز .. احمرّ وجهه غضباً ..
” أتدرون ما الذي دهى الأمة اليوم .. ؟ ” رفع إصبعه مهدداً ..
” إنه الجوال .. الجوال .. أيها المسلمووووون ” .. هذا الجهاز الذي فعل بنا الأفاعيل ..
” نرى بتحريمه .. لا تبتاعوه لأبنائكم .. لنسائكم .. ولا لأنفسكم ” ..!
مضى الزمن ..
تناقل الناس مقطعه المصور على الجوالات .. انتشر كالنار في الهشيم ..
حذّر الناس من السينما .. مفاسدها .. أضرارها التي فشت ..
” لقد عمّت البلوى .. وطمّت .. ” قال في مقطعه ..
” السينما .. مصنع الأفلام .. العُهر .. الرذيلة .. لقد غابت الرجولة ..
وساد التخنث .. التديّث .. في البيوت ..
بسبب الأفلام والمسلسلات .. المحرّمة ” .. !
مضى الزمن .. مضى مسلسل التحريم والتحليل .. بغير علم ..
أطلّت مخترعات .. ومخترعات .. ولا زال على حاله ..
أُطلقت الأقمار .. بالعشرات .. وهو يطلق الفتاوى .. وراء الفتاوى ..
تخلف الركب بقيادتهم .. لم يبرح مكانه ..
لكنه سعيد .. سعيد جداً ..
حرم كل شيء .. ثم استخدمه ..
ليست المشكلة هنا .. إنها بكل أسف ..
أن نسفح دم التحريم .. ثم نعود لنغسل الدماء مجدداً ..
( 7 )
استهزأ بالكلمة .. استخفّ بها .. مهلاً .. مهلاً ..
لا تهزأ بالكلمة .. ولا تثبط .. كن ساكتاً إن شئت ..
هل تعلم أن .. للأقصوصة أثر .. وربما لسكوتك أثر ..
لكن لا تهزأ .. لا تعرقل .. كن خير آخذ ..
” ألقى بالكلمة أو بالأقصوصة .. ” قال الكاتب ..
كان لها وقعٌ .. أشدَّ من الرصاص ..
كتبتها بقلم رصاص .. لا يعدو قلماً ..
لكنّه .. رصاص ..
ولأجل هذا لا تهزأ بأقصوصة ..
لا تهزأ بكلمات احتقرتْها عيناك .. فهناك من يراها بعيون أخرى ..
عيون لا تملكها أنت .. لا يملكها أمثالك ..
عيونكم اعتادت رؤية الظل .. تخشى النور .. لأن النور يعشيها ..
ولهذا لاتعلو عيونكم .. لا تعلو ..
بل تبقى ناظرة .. أسفل الحائط ..
لهذا .. فضلاً .. لا تهزأ ..
( 8 )
#أقاصيص_باحمادي
حدّثني والثقة بالله تقطر من جوانحه .. فقال ..
حينما الفقر والنحس والإملاق .. دهاني ..
سألتُ الله عز وجلّ .. فأعطاني ..
من فضله العميم الجزيل .. حباني ..
عن الناس .. عن المخلوقين .. أغناني ..
من السؤال .. وقاني .. وكفاني ..
من الشر .. نجّاني ..
عن السوء بعيداً .. رماني ..
بالجميل .. رعاني ..
بالتوبة .. بالتحنان .. بالرحمة .. أغراني ..
لما جئتُه .. بالودّ تلقّاني ..
إن أعرضت عنه .. أمهلني .. ويا لخيبتي .. ما أشقاني ..
هو الله .. أتعلم .. هو الله .. لا إله إلا هو ..
بحر الخير الزاخر .. فيض النور الباهر ..
رباه .. رباه .. الرحيم .. الرحمن ..
( 9 )
جمع من المهر .. ثلاثمائة ألف .. أوشك على الإقدام ..
غير أن المهر .. زاد ..
عانى .. تعب .. نَصَبَ .. فجمع ثلاثمائة وخمسين ..
ثم أوشك ..إلا أن المهر .. زاد ..
بعد عامين .. لم يُقدِم .. جمع أربعمائة .. زادها خمسين ألفاً ..
أخذ نفساً ..
أخيراً .. جمع المطلوب ..
بَلَغَهُ أنّ .. أسهم المهر .. أمست نصف مليون .. !!
قضى من عمره شطراً .. يجمع المهر ..
إلا أن المهر يأبى أن يستقـرّ ..
كانت قائمة المطالب .. طويلة جداً ..
لكنّ رحلة المهر .. أطول ..
طوى بساط الإقدام .. ألقى عصا التسيار ..
قرر أن يستمتع بما بقي بالحياة ..
ترك المهور .. وشأنها ..
وتحلى بالصبر .. والسروال ..
أكرر : تحلى بالصبر .. والسرواااال ..
( 10 )
مشى في الشارع .. استلفته إعلان في لوحة بحجم كبير ..
كان دعوة لشراء أسهم خيرية .. لبناء جامع كبييير ..
كانت الأنحاء تضجّ بالمساجد .. الكبيرة ..
أدركته صلاة الظهر .. صلى في واحدٍ منها ..
صلى في الصفّ الأول .. لأنه .. لم يكن هنالك من ثانٍ ..
كان المحراب فسيحاً .. والمسجد يسع المئات ..
مرّ بمدرسة يدرس بها ابنه .. تفاجأ .. وجده محشوراً .. مع ستين ..
كان الصفّ مكتظاً .. والفصول ضيقة ..
زار سجناً .. بالمساجين قد امتلأ ..
مرّ بصبية .. بين القمامة يلعبون .. يركلون كرة ..
تألم .. ألا ملعب يحتويهم .. فالملعب لا يوجد .. ولن يوجد .. !!
خَلَتْ مدينته من ملجأ للأيتام .. من سكن للطلاب .. للمقطوعين .. !!
خلت .. من مأوى لعابر السبيل ..
تعِب من المشي .. لم يجدْ مستراحاً .. لا متنزهاً .. أو حديقة .. !!
لا طريقَ تُرصَف .. لا بئر للفقراء تُحفَر .. لا أرضَ بالزرع تُعمَر .. !!
لا مركز تحفيظ .. لا روضة من دون مبنى بالإيجار .. !!
لا .. ولا .. ولا .. ولا ..
لا شيء سوى .. المساجد يُبنى .. ومزيداً .. من المساجد !!