المواقفُ السعودي من قضيةِ الجنوب ومطلب الاستقلال لم يكن بالمستوى المأمول ولا بالمقياس الذي يُفترض أن يكون وفقاً لمصالح السعودية في المنطقة ومحور ارتكازها باب المندب وخليج عدن ، المملكةُ حتى اليوم تنتهجُ سياسةً تتقاطع كلياًً مع مصالحها هنا ، وترسم مواقفُها الأخيرة من قضية الجنوب خطوطاً متعاكسعةً مع تلك المصالح التي تسعى إليها السعودية ، ليس ذلك غباءً ولا عجزاً لكنها سياسة فرضتها جملةٌ من الظروف لتنتهجَ السعودية هذا الخط بالحفاظ على اليمن موحدا والنأي بالنفس عن تبنّي أو مساعدة توجهات الجنوبيين نحو الاستقلال .
السعودية كان موقفها في واضحاً في خضم حرب اجتياح الجنوب في العام 94م وساندت قرار فك الارتباط بوضوح لكن فرض الأمر الواقع بالسيطرة العسكرية على الجنوب غيّرَ الموازين وبدّل المواقف ، وكان ذلك الموقف للسعودية يتماشي مع مصالح قديمة وسياسات بحتة تنتهجها المملكة آنذاك ،ولا تزال تحنُّ إليها، بيد أن السعوديةَ عادت لبناء علاقة مع نظام المخلوع صالح وفقا لمصالح غير متكافئة وغير منطقية _سياسيا_ في كثير من المحاور أهمها موقف اليمن من حرب الخليج الثانية ، هذه المواقف الواضحة وما كان يخفيه نظام صالح وأحزاب الشمال من حقدٍ دفين للسعودية ساعدت على انهيار تلك الروابط وظهور العداء الحقيقي الذي كانت تضمره قوى الشر اليمنية للجارة الكبرى ، وما الاستهدافُ العسكري والحماقات والتصعيد الذي تمارسه قوات صالح والمتمردون الحوثيون ضد المملكة إلا نتيجةٌ طبيعة للسياسات “الخاطئة” التي انتهجتها الشقيقة السعودية بنوايا طيبة مع الأنظمة والقوى التي تعاقبت على حكم اليمن الشمالي .
الموقف السعودي من قضية الجنوب (فك الارتباط) لا يزال متخاذلاً بناءً على متغيرات جديدة دخلت المعترك السياسي اليوم ، وبناء على مواقف “الرفاق” والعداء التأريخي الذي خلّفه نظام الحزب الاشتراكي تجاه المملكة والخليج ككل ، فاللاعب الإيراني والمدُّ الشيعي والاستهدف الصفوي للخليج العربي بات خطرا حقيقيا يهدد المنطقة العربية بشكل أجبر السعودية على تغيير بعض سياساتها الخارجية ،ولو بشكل مؤقت، ومحاولة إيران استمالة بعض قيادات الجنوب إلى صفها وسعيها -أي إيران- إلى بناء تحالف بين جماعة الحوثي والحراك الجنوبي هو ضرب في هذا الاتجاه الذي غيرت معه السعودية بعض مواقفها وبقيت متحفظةً عن الأخرى ومنها الموقف من قضية الجنوب ومطالب الاستقلال .
مصلحةُ السعودية اليوم تتجدد وتتأكد بأنها تكمن في العودة إلى عهد الدولتين وفي استقلال الجنوب والمساعدة على بناء دولة جنوبية ونظام عادل يضمن لها مصالحها ويكون منطلقاً للسعودية في مواجهة الأخطار والتهديدات التي تحدوها على المستوى البعيد ، فإعلان دولة الجنوب يعني دون أدنى شك اقتلاعَ أي حُلم لنظام صالح والحوثيين بالعودة إلى الجنوب ، وبقاءُ الوحدة مع الشمال يعني بقاء هذا الخطر ضد السعودية وضد منطقة الخليج كلها ؛ ليبقى صالح والحوثيون وكيل إيران الدائم في المنطقة . والسعودية تعي ذلك وتتفهمه تماما لكن حماقاتِ “الرفاق الأولين” ومراهقة “الرفاق الأخرين” هي التي ستبقى حاجباً بين استقلال الجنوب وموقف السعودية منه !!
ورغم أن عقلية الرفاق وسياسة الاشتراكي قد انتهت في الجنوب إلى غير رجعة وأن تحالف الحوثيين مع بعض قيادات الحراك الجنوبي “المراهقين” قد انتهت بحرب ضروس هُزِم خلالها الحوثيون وصالح في “غزوة 2015م” ..
إلا أن القيادات الجنوبية مازالت مطالبةً اليوم بمراجعة سياساتها تجاه الشقيقة السعودية .. مازالت بحاجة إلى أن تقدمَ نفسها للسعودية بانفتاح بعيدا عن سياسات الماضي وحماقات الحاضر وتصحح المفهوم الخاطئ الذي زرعه نظام صالح وجماعة إخوان اليمن في مواقف السعودية تجاه الجنوب ، ولعمري أن النهوض من حالة التشرذم والتشظّي والإجماع على إئتلاف جنوبي يقود المرحلة ويتصدر المشهد هو أولى خطوات التصحيح والتقرّب من المملكة العربية السعودية التي تعي تماما مصلحتها ومصلحة المنطقة من استقلال الجنوب وتستشعر جيدا خطر السير نحو الاستقلال بواقع مشتت وقيادات متباعدة الرؤي وضعيفة الموقف .