انطلاقة النور مقال لـ خالد محمد بامزاحم

348

مثل الشمس المنيرة المنطلقة من وراء الأفق إلى كبد السماء انطلق النور المحمدي نور النبوة يوم الهجرة من وراء السدود والحدود ، من وراء الأغلال والقيود ، من وراء السيوف المتلمظة و الأسنة الحانقة والحبائل المترصدة ،انطلق ساخراً منها واطئاً كبرياءها وهو يذر على الرؤوس التراب مغلقاً أجفانها وهو يتلو الآية الكريمة { وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون } فإذا العيون مغلقة وأصحابها غارقون في سبات عميق .

انطلق إلى الأفق الجديد لينشر نور الذكر الحكيم دون قيود ولا حدود مطلاً على الدنيا من حصون يثرب و آطامها، بل من قلوب أهليها التي كانت تردد في كل حين ذلك النشيد الخالد :

نحن الذين بايعوا محمدا       على الجهاد ما بقينا أبدا

أما رؤوس الرافضين التي رنحها الكرى وأرخى سواعدها السبات فقد أيقظها حر الضحى وتقريع العابر الساخر من الراصدين النائمين وهو يناديهم : ما تصنعون يا هؤلاء ؟

قالوا : ننتظر محمداً أن يخرج لنشيع دمه بسلاحنا بين قبائل قريش

فيرد عليهم قائلاً : قبحكم الله لقد خرج ومضى وأنتم نائمون 

ونظروا من خلل البـاب فإذا رجـل في الفراش يتقلب ولم تكـد عيونهم تنظر وقلوبهم تفرح حتى فاجأهم ابن عم نبي الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قائماً من الفراش ثابتاً غير هياب ، فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري ،

 وما كانت حاجتهم عنده فانطلقوا يذيعون النبأ ليستدركوا ما فات ، وذهب ابن عم الأمين صلى الله عليه وسلم ليؤدي الأمانات كما أمره صلى الله عليه وسلم إلى قريش التي آذته وتسعى اليوم لتريق دمه ، يا عجباً ! ما أعظم ثقتهم بأمانته : يحاولون قتله ولا يخافون على أماناتهم عنده! أين من يدرك هذا الخلق العظيم ؟ كيف يكذبونه ولا يأمنونه على أخبار السماء ؟ أيدع الكذب على الناس ويكذب على رب الناس ؟ ما لهم كيف يحكمون ؟ ومع ذلك انطلقوا بقلوب مسعورة وعزائم متوثبة { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون } فلينطلقوا كيفما يشاؤون وحيثما يشاؤون إن مُغالِب الله مغلوب ، فلسوف يصدهم عنه وهو بين أيديهم وراء ستر من خيوط العنكبوت في غار ساقتهم إليه آثار أقدامه ولو نظر أحدهم عند قدميه لرآه ،لكن لا، إنه ستر الله ،و لا يخرقه أحد سواه  ، وكيف يستطيعون أن يخرقوا  ستر الله عن رسوله  و قد نصره الله وملأ قلبه بطمأنينته حتى أفاض الطمأنينة علـى قلب صاحبه الأمثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال : { لا تحزن إن الله معنا }

لقد خيبهم الله وارتدوا على أعقابهم مقهورين ؛ ولكنهم لم يستسلموا ،بل بعثوا في القبائل صارخين يغرون كل طامع ذي قلب جريء ،بأن يعطوه مقدار الدية إن جاءهم بالصادق الأمين أو بصاحبه حيين أو ميتين لأن الصادق الأمين جنى أعظم الجنايات : دعاهم إلى الله ووعدهم على الإجابة سعادة الدنيا والآخرة !

وسار الركب الميمون ركب الأمين الهادي مؤيداً بعناية الله محفوفاً بملائكة الله ، جنود الله الذين لا تنالهم الأيدي ولا تدركهم العيون .

ولحق بالركب طامع أغرته الرغائب وغره الوسواس الكاذب إنه سراقة بن مالك يمتطي صهوة جواده ، ويتوثب بكل اجتهاده ، لا يظن شيئاً يرده عن مراده ، ولا يدري أن الأقدار تمسك بقياده فلما دنا تعثر به الجواد فألقاه على الأرض صريعاً فقام وعاود انطلاقه بعزيمة وتصميم ولكن الجواد ساخت قوائمه في الأرض وألقاه على الأرض ثانية فأدرك أن الله هو الذي منعهما منه فناداهما بالأمان فأطلق الله له جواده فعاد يخذّل الناس عنهما.

واستمر الركب المبارك يغذ السير حتى بلغ ربوع طيبة فخرجت تستقبله بشيبهـا وشبابـها و أطفالها وعبيدها وسادتها معلنة له منذ البدء وفاءها بما عاهدته عليه يوم العقبة من التأييد لينطلق النور منها إلى كل الآفاق يرسم معاني الهجرة المباركة  بكل خطواتها على  قلوب الأمة تذكرهم دائماً وأبداً أن نور الحق لا تحبسه الأغلال والقيود و أنه متى امتلأت به القلوب واشتدت به العزائم استطار حتى يملأ الآفاق فهو كالشمس مهما تكاثفت دونها الغيوم ظلت تضيء من فوقها وتخترقها بأشعتها إلى أن تنجلي فيسطع النور ملء الكون ينير كل سبيل فتتوارى منه الخفافيش وتهرب إلى خرائبها البوم ،وتلجأ إلى وجورها الضباع كما حصل يوم الهجرة ، الهجرة التي فتحت لنور القرآن كل طريق ، فاقتحم أسوار المدائن والقلاع ، وأقام ميزان العدالة حتى عم الأمان وظهر الحق للعيان وتآخت تحت راية القرآن الأمم في المشارق والمغارب ، وانتشر العلم حتى تغلغل في البوادي والغابات يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويزيدهم من فضله

هـذا النـور نور القرآن لا يطفئه الأعداء مهما تكـاثروا {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره المشركون }

فالقلوب الحاقدة والعقول المظلمة مهما نشرت أمام النور من ركام الأباطيل، ومهما ألقت عليه كثافة الأضاليل لا بد أن تضمحل بطبعها فالباطل يبطل والضلال يضل أي يضيع لا يمكنهما البقاء في وجه النور فالنـور ينتشر من خلال القلوب التي تحيى به والألسن التي تتحدث عنه بصدق وبيان فيدركه الناس ويبصرونه ويسعون إليه فالهجرة من مكان إلى مكان ليست ضرورية إلا حيث تسد على أهل النور طرق البلاغ إنما الضروري دائماً وأبداً هو هجر سبل الغواية {والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه } كما قال سيد أهل الهجرة صلى الله عليه وسلم .

هؤلاء المهاجرون الفاتحون يغدو كل منهم مناراً تستضيء به إلا الآفاق ، وتستنير به قلوب الباحثين عن الحق الظامئين إلى الهداية ، المتلهفين إلى حياة الإخاء وحياة العدالة في ظل مبادئ السماء .

هؤلاء الفاتحون هم أهل الفتوحات الحقيقيون والسيف الذي كان معهم في الماضي مجرد حارس يدفع الطغاة الذين يمنعون النور عن أممهم ولذلك استمرت فتوحات النور بعد ما غاب السيف ، وما زالت منطلقة إلى كل الدنيا رغم الضعف السياسي والاقتصادي والعسكري فتوحات النور ما زالت ماضية إلى الأمام تشق صفوف الجاهلية وكما اضمحلت أباطيل الجاهلية الأول وأضاليلها حين أشرق نور القرآن وانطلق بانطلاق سيد المرسلين من وراء الأسوار و الأغلال والحراس سوف تضمحل الجاهليات القائمة والقادمة حين ترفع أمة القرآن راية القرآن وتسير وراءها كما سار المهاجرون الأولون ليملؤوا العالم بنوره نور العلوم التي تهدي الإنسان وتكرم الإنسان ولا تدمر بالجشع والحسد والقلق حياة الإنسان .

ووعد الله ما زال قائماً :{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } بالهدى والحق لا لأمة من الأمم واحدة بل لكل الأمم تحقيقاً لقول الله تعالى :{ وما أرسلناك إلا رحمة  للعالمين }  وصدق الله العظيم.

LEAVE A REPLY