من ذكريات الزمن التربوي الجميل (1)

450
بقلم : د. عيدروس نصر ناصر 
بقلم : د. عيدروس نصر ناصر 

في العام 1977 أنهيت دار المعلمين كدفعة أولى وكنت الأول على دفعتي في المحافظة والثالث على مستوى الجمهورية لكنني كنت مضطراً لدخول دورة تدريبية عسكرية لمدة شهر خلال الفترة سبتمبر أوكتوبر بعد أن كنت قد استلمت قرار التعيين كمعلم في مديرية رصد (التي كان اسمها مركز رصد) وكان المركز يشمل ما صار فيما بعد ثلاث مديريات هي حاليا: رصد وسرار وسباح.

لم أكن معروفا في رصد إلا كناشط طلابي ولم أكن أعرف هناك إلا قليلا من المسؤولين وعلى مستوى محدود جدا، وفي مقدمتهم المرحوم علي محمد عبادي مساعد مأمور المركز والشهيد عثمان راجح سكرتير منظمة التنظيم وعبد الحبيب عبد القوي مدير التعاونية، أما في قطاع التربية التي كان مديرها الشهيد عبد الله الحكمي عليه رحمة الله فلم أكن أعرف فيه أحدا ولا أحد يعرفني كما أتوقع.

عندما أكملت دار المعلمين كان عمري 22 سنة وبعد الدورة التدريبية عدت ووجدت قرار اختياري مديرا للمدرسة الإعدادية التي كانت الوحيدة في عموم رصد (الثلاث المديريات اليوم) وهي الأعلى مستوى تعليميا هناك.

كان الخبر مهيبا لي لأنه يحمل تحديا كبيرا فمن تلميذ يعيش حياة التلاميذ العادية بما فيها من شغب وطيش ومحاولات إثبات الذات ومراهقات صبيانية، إلى مدير مسؤول على أكثر من عشرين مدرساً بعضهم خدمته أكثر من عشر سنوات ومنهم من يكبرني بعشر وأكثر ثم فوق الثلاث مائة طالب بعضهم في سني.

ويشاء القدر أن من بين طلابي بعضا ممن كانوا قبل خمس سنوات زملاء لي في مدرسة رخمة ممن كانوا بعدي بسنتين أو ثلاث لكننا كنا زملاء في اللعب والعبث والأنشطة والمشاجرات.

كان التحدي كبيراً والامتحان جاداً والموقف دقيقاً وقد ترددت في أن أرفض القرار، لكنني كنت أخشى تهمة التهرب، فالمسؤولية في ذلك الزمن لم يكن فيها ما يغري بقدر ما مثلت تكليفاً ينبغي على من يحترم معاني الوطنية أن يقبل به ومن يتهرب منه سيكون محل انتقاص وتشكيك، وأنا لا أقبل على نفسي الاتهام بالخوف أو الانتقاص في وطنيتي، وقد اكتشفت بعد التعيين أن سمعة طيبة قد سبقتني سببها انخراطي في النشاط الحزبي والجماهيري مبكرا وجاء تفوقي في دبلوم دار المعلمين وإذاعة اسمي عبر الإذاعة والتلفيزيون (الذي لم يكن واسع الانتشار في تلك الأيام لكن كثيرين كانوا يحوزون عليه) جاءا ليضيفا لاسمي انتشارا لا أستطيع القول أنه كان مضرا لكنه مثل تحديا لا يخلو من المتاعب ولالتزامات.

عندما عدت الى القرية وكان ذلك في نهاية أوكتوبر 77م وجدت أمامي رسالة تطلب حضوري الى مكتب التربية لكنني كنت قد سمعت بقرار تعييني مديرا للاعدادية ولم استرح يومين حتى تحركت الى عاصمة المركز لأقابل المرحوم الشهيد عبد الله الحكمي الذي كان حينها مساعد مشرف التعليم (هكذا كان يسمى مدير التربية ولتعليم في المركز مقابل مشرف التعليم في المديرية ومراقب التعليم في المحافظة).

كان المرحوم الحكمي شخصية صارمة وجادة وقليلة المرح والدعابة لكنه لم يكن شريرا ولا منعزلا، بل كان مديرا ناجحا بكل معاني مفردة النجاح وقد أدار بحكمة وإتقان بمساعدة موظفين أو ثلاثة ، أكثر من 30 مدرسة ابتدائية ومدرسة اعدادية مع قسمها الداخلي، بمهارة قل نظيرها في ظل إمكانيات محدودة جدا، وقد ساعده في ذلك كما ساعد من كان قبله ومن جاء بعده، عدة عوامل أذكر منها:

1. النزاهة التي كانت معيارا لكل من ينخرط في سلك التربية والتعليم خصوصا كما كانت معيارا للموظف الحكومي بعامة.

2. تعطش الناس للتعليم حيث كان من لا يرسل ابنه أو بنته للتعليم يشعر بالعار والخجل وكان الناس يتطلعون إلى ما سيحدثه تعليم أبنائهم وبناتهم من تغيير عاصف في مستقبل هؤلاء الأبناء والبنات.

3. قوة وصرامة السلطة التنفيذية والأمنية والحزبية والقضائية في التطبيق الحازم للقانون والنظام على الجميع وجعل إلزامية ومجانية التعليم أمرا جاريا على الصغار والكبار والفقراء والأغنياء علىةالسواء.

4. السمعة الطيبة التي حاز عليها المتعلمون الأوائل ممن درسوا في الخارج أمثال الشهيد ثابت عبد، القاضي زيد حنش عبد الله ، الشهيد حسين محمد حسين ، التربوي القدير الأستاذ محمد علي ناصر الجبير وغيرهم من التربويين ممن تعلموا في مدارس الدخل أو ممن أتوا من المهجر بمستوى تعليمي طيب أمثال الأساتذة عبد لله الحكمي، عيدروس هادي أحمد، علي حسين علي وغيرهم، فضلا عن النموذج الرائع الذي قدمته الفتيات ممن تهرجن من المعهد الصحي ومعهد المرأة وصرن يشتغلن في أعمال السكرتارية والخدمات الطبية والأنشطة الشبابية والنسائة وخدمة العناية بالأسرة، ما حفز الكثير من الآباء على إرسال أبنائهم وبناتهم إلى المدارس والمعاهد المهنية.

5. روح المنافسة البناءة التي كانت تسود بين مدارس المركز وقد مثلت مدرسة سرار المدرسة الأعرق من حيث قدم التجربة وبلوغ طلابها نهاية الثانوية وانخراط الكثير منهم في التعليم الجامعي لاحقا، كما كانت مدرسة المنصورة (الرباط) من المدارس الرائدة في تقديم المبادرات والابتكارات، بينما كانت مدرسة رخمة المدرسة الأكثر ازدحاما وكثافة وفيها الكثير من المتفوقين، وإلى جانب هذه المدارس كانت هناك مدارس ناشئة تشق طريقها بقوة للمنافسة أمثال مدرسة الشعب (السعدي) مدرسة ظبه، مدرسة لعمري، ومدارس أقل حجما لكن طلابها كانوا قد وصلوا إلى الإعدادية في تلك السنة، أمثال مدرسة هرمان، ومدرسة شعب العرب، وذي عسيم والصفأة ومدارس سباح (اليوم) العرقة وطسة والصعيد. وغيرها من المدارس الابتدائية.

يتبع

LEAVE A REPLY